فصل: تنبيه (على الآية تدل أن فعل العبد يضاف إلى الله تعالى):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويرد نحو هذا على ما روى عن الزهري وسعيد بن المسيب من أن الآية إشارة إلى رميه عليه الصلاة والسلام يوم أحد فإن اللعين أبي بن خلف قصده عليه الصلاة والسلام فاعترض رجال من المسلمين له ليقتلوه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استأخروا» فاستأخروا فأخذ عليه الصلاة والسلام حربته بيده فرماه بها فكسر ضلعًا من أضلاعه، وفي رواية خدش ترقوته فرجع إلى أصحابه ثقيلًا وهو يقول: قتلني محمد فطفقوا يقولون: لا بأس عليك فقال: والله لو كانت بالناس لقتلتهم فجعل يخور حتى مات ببعض الطريق.
وما أخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ابن أبي الحقيق وذلك في خيبر دعا بقوس فأتى بقوس طويلة فقال عليه الصلاة والسلام: جيئوني بقوس غيرها فجاءوه بقوس كبداء فرمي صلى الله عليه وسلم الحصن فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحقيق في فراشه فأنزل الله تعالى الآية، والحق المعول عليه هو الأول، وتجريد الفعل عن المفعول به لما أن المقصود بيان حال الرمي نفيًا وإثباتًا إذ هو الذي ظهر منه ما ظهر وهو المنشأ لتغير المرمي به في نفسه وتكثره إلى حيث أصاب عيني كل واحد من أولئك الجم الغفير شيء من ذلك، والمنعنى على ما قيل: وما فعلت أنت يا محمد تلك الرمية المستتبعة لتلك الآثار العظيمة حقيقة حين فعلتها صورة ولكن الله تعالى فعلها أي خلقها حين باشرتها على أكمل وجه حيث أوصل بها الحصباء إلى أعينهم جميعًا، واستدل بالآية على أن أفعال العباد بخلقه تعالى وإنما لهم كسبها ومباشرتها قال الإمام: أثبت سبحانه كونه صلى الله عليه وسلم راميًا ونفي كونه راميًا فوجب حمله على أنه عليه الصلاة والسلام رمى كسبًا والله تعالى رمى خلقًا، وقال ابن المنير: إن علامة المجاز أن يصدق نفيه حيث يصدق ثبوته ألاتراك تقول للبليد حمار ثم تقول ليس بحمار فلما أثبت سبحانه الفعل للخلق ونفاه عنهم دل على أن نفيه على الحقيقة وثبوته على المجاز بلا شبهة، فالآية تكفح بل تلفح وجوه القدرية بالرد، فإن قلت: إن أهل المعاني جعلوا ذلك من تنزيل الشيء منزلة عدمه وفسروه بما رميت حقيقة إذ رميت صورة والرومي الصوري موجود والحقيقي لم يوجد فلا تنزيل أُجِيبُ بأن الصوري مع وجود الحقيقي كالعدم وما هو إلا كنور الشمع مع شعشعة الشمس ولذا أتى بنفيه مطلقًا كإبثاته، وما ذكروه بيان لتصحيح المعنى في نفس الأمر وهو لا ينافي النكتة المبنية على الظاهر، ولذا قال في شرح المفتاح النفي والإثبات واردان على شيء واحد باعتبارين:
فالمنفي هو الرمي باعتبار الحقيقة كما أن المثبت هو الرمي باعتبار الصورة، والمشهور حمل الرمي في حيز الاستدراك على الكامل وهو الرمي المؤثر ذلك التأثير العظيم، واعترض المطلق ينصرف إلى الفرد الكامل لتبادره منه وأما ما جرى على خلاف العادة وخرج عن طوق البشر فلا يتبادر حتى ينصرف إليه بل ذلك ليس من افراده وأجيب بأنا لا ندعي إلا الفرد الكامل من ذاك المطلق حسبما تقتضيه القاعدة، وكون ذلك الفرد جاريا على خلاف العادة وخارجًا عن طوق البشر إنما جاء من خارج، ووصف الرمي بما ذكر بيان لكماله، ولا يستدعي ذلك أن لا يكون من أفراد المطلق ومن ادعاه فقد كابر.
واعترض على التفسير الأول بأنه مشعر بتفسير {رمى} في حيز الاستدراك بخلق الرمي وتفسير {رَمَيْتَ} في حيز النفي بخلقت الرمي، فحاصل المعنى حينئذ وما خلقت الرمي إذ صدر عنك صورة ولكن الله سبحانه خلقه، ويلزم منه صحة أن يقال مثلًا: ما قمت إذ قمت ولكن الله سبحانه قام على معنى ما خلقت القيام إذ صدر عنك صورة ولكن الله تبارك وتعالى خلقه ولا أظنك في مرية من عدم صحة ذلك وأجيب بأن القياس يقتضي صحة ذلك إلا أن مدار الأمر على التوقيف.
واعترض على ما يستدعيه كلام ابن المنير من أن المعنى وما رميت حقيق إذ رميت مجازًا ولكن الله تعالى رمى حقيقة بأن نفى الرمي حقيقة حين إثباته مجازًا من أجل البديهيات فأي فائدة في الإخبار بذلك، قيل: ومثل ذلك يرد على كلام الإمام لأن كسب العبد للفعل عندهم على المشهور عبارة عن محلية العبد للفعل من غير تأثير لقدرته في إيجاده ويئول ذلك إلى مباشرته له من غير خلق، فيكون المعنى وما خلقت الرمي إذ باشرت ولم تخلق وهو كما ترى وهو كما ترى، وبالجملة كلام أكثر أهل الحق في تفسير الآية والاستدلال بها وكذا بالآية قبلها على مذهبهم لا يخلو عن مناقشة ما، ولعل الجواب عنها متيسر لأهله.
وقال بعض المحققين: إنه أثبت له صلى الله عليه وسلم الرمي لصدوره عنه عليه الصلاة والسلام ونفي عنه لأن أثره ليس في طاقة البشر، ولذا عد ذلك معجزة حتى كأنه صلى الله عليه وسلم لا مدخل له فيه، فمبنى الكلام على المبالغة ولا يلزم منه عدم مطابقته للواقع لأن معناه الحقيقي غير مقصود، ولا يصح أن تخرج الآية على الخلق والمباشرة لأن جميع أفعال العباد بمباشرتهم وخلق الله تعالى فلا يكون للتخصيص بهذا الرمي معنى وله وجه وإن قيل عليه ما قيل وأنا أقول: إن للعبد قدرة خلقها الله تعالى له مؤثرة بإذنه فما شاء الله سبحانه كان وما لم يشأ لم يكن لا أنه لا قدرة له أصلًا كما يقول الجبرية، ولا أن له قدرة غير مؤثرة كماهو المشهور من مذهب الأشاعرة، ولا أن له قدرة مؤثرة بها يفعل ما لا يشاء الله تعالى فعله كما يقول المعتزلة، وأدلة ذلك قد بسطت في محلها وألفت فيها رسائل تلقم المخالف حجرًا، وليس إثبات صحة هذا القول وكذا القول المشهور عند الأشاعرة عند من يراه موقوفًا على الاستدلال بهذه الآية حتى إذا لم تقم الآية دليلًا يبقى المطلب بلا دليل.
فإذا كان الأمر كذلك فأنا لا أرى بأسًا في أن يكون الرمي المثبت له صلى الله عليه وسلم هو الرمي المخصوص الذي ترتب عليه ما ترتب مما أبهر العقول وحير الألباب، وإثبات ذلك عليه الصلاة والسلام حقيقة على معنى أنه فعله بقدرة أعطيت له صلى الله عليه وسلم مؤثرة بإذن الله تعالى إلا أنه لما كان ما ذكر خارجًا عن العادة إذ المعروف في القدر الموهوبة للبشر أن لا تؤثر مثل هذا الأثر نفى ذلك عنه وأثبت لله سبحانه مبالغة، كأنه قيل: إن ذلك الرمي وإن صدر منك حقيقة بالقدرة المؤثرة بإذن الله سبحانه لكنه لعظم أمره وعدم مشابهته لأفعال البشر كأنه لم يصدر منك بل صدر من الله جل شأنه بلا واسطة، وكذا يجوز أن يكون المعنى وما رميت بالرعب إذ رميت بالحصباء ولكن الله تعالى رمى بالرعب، فالرمي المنفي أولًا والمثبت أخيرًا غير المثبت في الأثناء وعلى الوجهين يظهر بأدنى تأمل وجه تخالف أسلوبي الآيتين حيث لم يقل: وما رميت ولكن الله رمى ليكون على أسلوب فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ولا فلم تقتلوهم إذ قتلتموهم ولكن الله قتلهم ليكون على أسلوب {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} ولا يظهر لي نكتة في هذا التخالف على الوجوه التي ذكرها المعظم، وكونها الإشارة إلى أن الرمي لم يكن في تلك الوقعة كالقتل بل كان في حنين دونه على ما فيه مخالف لما صح من أن كلا الأمرين كان في تلك الوقعة كما علمت فتأمل فلمسلك الذهن اتساع: وقرئ {ولكن الله} بالتخفيف ورفع الاسم الجليل في المحلين {وَلِيُبْلِىَ المؤمنين مِنْهُ بَلاء حَسَنًا} أي ليعظيهم سبحانه من عنده إعطاء جميلًا غير مشوب بالشدائد والمكاره على أن البلاء بمعنى العطاء كما في قول زهير:
جزى الله بالإحساب ما فعلا بكم ** فأبلاهما خير البلاء الذي يبلى

واختار بعضهم تفسيره بالإبلاء في الحرب بدليل ما بعده يقال: أبلى بلاء حسنًا أي قاتل قتالًا شديدًا وصبر صبرًا عظيمًا، سمي به ذلك الفعل لأنه ما يخبر به المرء فتظهر جلادته وحسن أثره، واللام إما للتعليل متعلق بمحذوف متأخر فالواو إعتراضية أي وللإحسان إليهم بالنصر والغنيمة فعل ما فعل لا لشيء آخر غير ذلك مما لا يجديهم نفعًا، وإما برمي فالواو للعطف على علة محذوفة أي ولكن الله رمي ليمحق الكافرين وليبلي إلخ.
وقوله تعالى: {إِنَّ الله سَمِيعٌ} أي لدعائهم واستغائتهم أو لكل مسموع ويدخل فيها ما ذكر {عَلِيمٌ} أي بنياتهم وأحوالهم الداعية للإجابة أو لكل معلوم ويدخل فيه ما ذكر أيضًا تعليل للحكم {ذلكم} إشارة إلى البلاء الحسن، ومحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. اهـ.

.قال القاسمي:

{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} أي: بقوتكم {وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ} أي: سبب في قتلهم بنصرتكم وخذلانهم وألقى الرعب في قلوبهم، وقوى قلوبكم، وأمدكم بالملائكة، وأذهب عنها الفزع والجزع.
{وَمَا رَمَيْتَ} أي: أنت يا خاتم النبيين، أي: ما بلغت رمية الحصباء إلى وجوه المشركين {إِذْ رَمَيْتَ} أي: بالحصباء، لأن كفًا منها لا يملأ عيون الجيش الكثير برمية بشر {وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى} أي: بلغ بإيصال ذلك إليهم ليقهرهم.
وقال أبو مسلم في معنى الآية: أي: ما أصبت إذا رميت، ولكن الله أصاب.
والرمي لا يطلق إلا عند الإصابة، وذلك ظاهر في أشعارهم.
وقد روي عن غير واحد، أنها نزلت في شأن القبضة من التراب التي حصب بها النبي صلى الله عليه وسلم وجوه المشركين يوم بدر، حين خرج من العريش، بعد دعائه وتضرعه واستكانته، فرماهم بها وقال: «شاهت الوجوه». ثم أمر أصحابه أن يصدقوا الحملة إثرها، ففعلوا، فأوصل الله تلك الحصباء إلى أَعْيَن المشركين، فلم يبق أحد منهم إلا ناله ما شغله عن حاله، وانهزموا.

.تنبيه [على الآية تدل أن فعل العبد يضاف إلى الله تعالى]:

قال الجشمي: تدل الآية أن فعل العبد يضاف إليه تعالى إذا كان بنصرته ومعونته وتمكينه، إذ معلوم أنهم قتلوا، وأنه رمى، ولذلك قال: {إِذْ رَمَيْتَ} ولهذا يضاف إلى السيد ما يأتيه غلامه.
وتدل على أن الإضافة بالمعونة والأمر، صارت أقوى، فلذلك قال: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ}.
وقال في العناية: استدل بهذه الآية والتي قبلها على أن أفعال العباد بخلقه تعالى، حيث نفى القتل والرمي.
والمعنى: إذ رميت أو باشرت صرف الآلات.
والحاصل: ما رميت خلقًا إذا رميت كسبًا. وأورد عليه أن المدعي وإن كان حقًا، لكن لا دلالة في الآية عليه، لأن التعارض بين النفي والإثبات الذي يتراءى في بادئ النظر، مدفوع بأن المراد ما رميت رميًا تقدر به على إيصاله إلى جميع العيون، وإن رميت حقيقة وصورة، وهذا مراد من قال: ما رميت حقيقة إذ رميت صورة، فالمنفي هو الرمي الكامل، والمثبت أصله، وقدر منه.
فالإثبات والنفي لم يردا على شيء واحد، حتى يقال: المنفي على وجه الخلق، والمثبت على وجه المباشرة، ولو كان المقصود هذا لما ثبت المطلوب بها، الذي هو سبب النزول، من أنه أثبت له الرمي، لصدوره عنه، ونفى عنه، لأن أثره ليس في طاقة البشر، ولذا عدت معجزة له، حتى كأنه لا مدخل له فيها أصلًا. فمبنى الكلام على المبالغة، ولا يلزم منه عدم مطابقته للواقع، لأن معناه الحقيقي غير مقصود. هكذا ينبغي أن يفهم هذا المقام إذ لو كان المراد ما ذكر، لم يكن مخصوصًا بهذا الرمي، لأن جميع أفعال العباد كذلك بمباشرتهم وخلق الله. انتهى.
وهذا التحقيق جيد، وقد نبه عليه أيضًا العلامة ابن القيم في زاد المعاد حيث قال:
وقد ظنت طائفة أن الآية دلت على نفي الفعل عن العبد وإثباته لله، وأنه هو الفاعل حقيقة، وهذا غلط منهم من وجوه عديدة، مذكورة في غير هذا الموضع.
ومعنى الآية: أن الله سبحانه أثبت لرسوله ابتداء الرمي، ونفى عنه الإيصال الذي لم يحصل برميه، فالرمي يراد به الحذف والإيصال، فأثبت لنبيه الحذف، ونفى عنه الإيصال. انتهى.
وقوله تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ} أي: ليمنحهم من فضله {بَلاء حَسَنًا} أي: منحًا جميلًا، بالنصر والغنيمة والفتح، ثم بالأجر والمثوبة، غير مشوب بمقاساة الشدائد والمكاره، فيعرفوا حقه ويشكروه.
قال أبو السعود: واللام، إما متعلقة بمحذوف متأخر، فالواو اعتراضية، أي: وللإحسان إليهم بالنصر والغنيمة، فعل ما فعل، لا لشيء غير ذلك، مما لا يجديهم نفعًا، وإما برمي، فالواو للعطف على علة محذوفة، أي: ولكن الله رمى ليمحق الكافرين وليبلي.. الخ. وتفسير البلاء هنا بالمنحة هو ما اختاره المحققون من قولهم: أبلاه الله ببلية إبلاء حسنًا، إذا صنع به صنعًا جميلًا، وأبلاه معروفًا، قال زهير في قصيدته التي مطلعها:
صحا القلبُ عن سَلَمَى وقد كَادَ لا ** يَسْلُو وأقفر من سَلْمَى التَّعانيقُ والثِّقلُ

والتعانيق والثقل: مواضع:
جزى اللهُ بالإحسانِ ما فعلا بكم ** وأبلاهما خَيْرَ البَلاءِ الذي يَبْلُو

أي: إحسان فعلهما بكم، فأبلاهما خير البلاء، أي: صنع الله إليهما خير الصنيع الذي يبتلي به عباده، والْإِنْسَاْن يبلى بالخير والشر، أي: صنع بهما خير الصنيع الذي يبلو به عباده.
واستظهر الطيبي تفسيره بالإبلاء في الحرب بدليل ما بعده. قال ابن الأعرابي: يقال: أبلى فلان إذا اجتهد في صفة حرب أو كرم، ويقال: أبلى ذلك اليوم بلاء حسنًا.
{إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ} أي: لدعائهم واستغاثتهم {عَلِيمٌ} أي: بمن يستحق النصر والغلب. اهـ.